بين مفهوم البداوة والحضارة
________________________________________
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين
البداوة والحضارة
حالما يسمع احدنا لفظة ( البداوة )، حتى يقفز إلى ذهنه صورة البدوي؛ الذي يجوب الصحراء بناقته حاملا معه سيفه وزاده وربابته. وهو ينظر بعين العاق إلى هودج حبيبته ويترنم بقصائد غزلية متناغمة مع خطوات بعيره ويطلق بين الفينة والفينة صرخات النصر، والنخوة، والعصيات القبلية .
هذه الصورة البسيطة المتكونة في الأذهان؛ نتيجة وسائل الإعلام المرئية وما تنقله عن حياة البدو في الصحراء، وكيف يعيشون ؟ وكيف أن القبيلة والعشب والماء تشكل محورية حياتهم القاسية والمتنقلة . بينما يتراى أمامنا حينما نسمع عن معنى (الحضارة)، كل ما هو حضاري وثقافي، ومتطور ،و جميل وأنيق ومريح من بناء، وعمارات، وشوارع، ومؤسسات ثقافية ودينية واجتماعية وإنسانية راقية تدفع بالإنسان نحو الرقي والرفعة . وتشكل تلك الجسور الحضارية والتي تنتقل فيها القيم والأفكار والرؤى والأعراف والأخلاق من جيل إلى جيل وبموجب هذه الجسور تنتقل الحضارة عبر الأجيال فيبدأ الجيل الجديد حياته من حيث انتهى الجيل السابق، ومن خلال هذا الامتداد ينتقل إلينا هذا التيار الحضاري الكبير من عصر آدم (ع) وعصور نوح وموسى وعيسى ورسول الله صلوات الله عليهم وسلامه ونحن قطعة من هذا الماضي العريق وفرع من تلك الجذور الممتدة في عمق التاريخ .
ومهما يكن الحال فإننا حين نفهم ماهية البداوة نستطيع إن نفهم شيئا عن ماهية الحضارة بصورة غير مباشرة، فالحضارة معاكسة للبداوة في كثير من خصائصها وقد ذهب المؤرخون العرب وعلى رأسهم ابن خلدون إلى تصنيف الناس إلى فئتين متناقضتين هما (البدو والحضر) ،إلا إن الأستاذ علي الوردي وصف الحضارة: ( بالظاهرة الاجتماعية المتغيرة التي تختلف في كثير من معالمها وخصائصها باختلاف الزمان والمكان في اليوم تشبه ما كانت عليه قبل مئة سنة أو قبل عدة مئات من السنين وهي كذلك تتشابه في المناطق المختلفة تقريبا ( .فيما يصف المؤرخ (توينبي) متناغما مع ما ذهب إليه الوردي إلى وصف البداوة بأنها (حضارة مجمدة) واختلف علماء الاجتماع في ترجمة المصطلح الاجتماعي فبعضهم ترجمه إلى (ثقافة) والذي يستعمله الآن كثير من المؤلفين في مصر وغيرها والتي تعني المعرفة أو التهذيب والنضوج العلمي وبعضهم الأخر ترجمه إلى (حضارة) إذ أن لفظة الحضارة استعملت في اللغة العربية منذ قديم الزمان بمعنى (المدينة ).
وعند النظر إلى طبع الشخصية البدوية عند علماء الاجتماع والانثرولوجيا وهؤلاء قد قدموا لنا في هذا الشأن دراسات كثيرة نافعة وأنهم أبوا على ذكر أجزاء الثقافة البدوية ليتعرفوا على الطابع لعام الكامن ورائها . قال (براون) وهو احد المستشرقين
ان الفضائل في البداوة هي الشجاعة والكرم والولاء للقبيلة والثأر )، فيما حاول (مور) أن يحصر تلك الفضائل في اثنين هما
الشرف والثأر)، أما (غولدزيهر) فقد حصرها في واحدة هي (المروءة) مع ما تشتمل من شجاعة وشهامة وكرم إلى حد الإسراف والإخلاص التام للقبيلة والقسوة في الانتقام والأخذ بالثار ممن اعتدى عليه أو على قبيلته بقول أو فعل.
ولكن الوردي يذهب إلى أن مركبات الثقافة البدوية هي ثلاث : 1- العصبية 2- الغزو 3- المروءة والملاحظ أن طابع (التغالب) موجود في جميع هذه المركبات الثلاثة .
إن نزعة التغالب تبدو واضحة الأثر في شخصية كل رجل بدوي قليلا أو كثيرا فالبدوي يحب من صميم قلبه أن يكون غالبا لا مغلوبا في كل شان من شؤون حياته .
ويطلق الوردي على ظاهرة غريبة في تاريخ العراق الاجتماعي والتي اسماها ( ظاهرة المد والجز ) والتي يرى فيها أن البدوية تستفحل في حين ثم تتقلص عنه حينا أخر وذلك تبعا لوضع الدولة فيه من حيث ضعفها أو قوتها .أن الدولة أساس مهم من أسس الحضارة فإذا قويت الدولة في بلد ما بحيث استطاعت أن تقمع النزاع الداخلي فيه وتضرب على أيدي اللصوص وقطاع الطريق ازدهر الإنتاج الزراعي والتجاري والصناعي وعمرت المدن وانهمك الناس في حرفهم المختلفة لا يخشون شيئا وقد حدث هذا في تاريخ العراق مرات عديدة كما لا يخفى وعندئذ وجدنا القيم البدوية تتقلص تدريجيا حيث يظهر مكانها القيم الحضرية القائمة على الطاعة والاحتراف .
إن هذه الظاهرة قد أخذت بالظهور في زماننا قبيل سقوط الصنم ألصدامي وفي غياب سلطة قوية تفرض هيبتها على المجتمع العراقي ككل، اذ نشطت العصابات والجماعات الارهابية التي قطعت الطرق وسلبت الاموال وعطلت الكثير من المشاريع الحضارية والعمرانية (ولله در الوردي) من مقاله هذا وكانه حاضر في ظهرانينا او هو تنبؤ سابق للاحداث !
ويرى الوردي : ان مشكلة العراق انه حين ينحسر عنه المد البدوي لايستطيع ان يتكيف للحضارة سريعا حين تاتي اليه فهو يبقى متمسكا بقيمه البدوية زمنا يقصر او يطول تبعا للظروف التي تواجهه عند ذلك من طبيعة القيم الاجتماعية بوجه عام، انها تبقى فعالة زمنا بعد ذهاب الظروف المساعدة لها فالناس اذا تعودوا على قيم معينة صعب بعد ذلك ان يتركوها دفعة واحدة ،لاشك انها تضعف فيهم بالتدريج بعد ذهاب العوامل المساعدة لها ولكن ذلك يحتاج الى زمن وفي خلال هذا الزمن يحدث الصراع بين القيم الجديدة والقيم القديمة وقد تظهر من جراء ذلك مشكلات اجتماعية لايستهان بها .
ولا ندري متى ينحسر عن عراقنا هذا المد البدوي، متى يعي شعبنا هذه الحالة الشاذة لينتهي الصراع الدامي من جراء هذه الظاهرة ومشكلاتها .
ويعود الوردي فيصنف المنطقة العربية الى ثلاثة اصناف رئيسية : وهي اكثر مناطق العالم معاناة للصراع بين البداوة والحضارة اولها : هو الصنف الذي يشبة العراق شبها كبيرا من حيث الحضارة والبداوة فيه جنبا الى جنب كالاردن والشام والمغرب وتونس والجزائر واليمن والعراق يتفوق على كل هذه الاقطار في شدة ظهور الصراع والازدواج فيه . واما الصنف الثاني : والذي تكون فيه البداوة اشد واكثر تاثيرا من الحضارة ولهذا فالصراع فيه ضعيف مثل ( نجد والاحساء والعسير وليبيا والجزء الصحراوي من الجزائر وعمان وحضر موت.)
واما الصنف الثالث : وهو النقيض من الصنف الاول والثاني حيث تكون فيه الحضارة اقوى من البداوة واكثر تغلغلا في الحياة الاجتماعية وهي ( مصر ولاسيما الوجه البحري منه اما القبلي وهو الذي يسمى بالصعيد فمن الممكن عده من الصنف الاول وهو بذلك يشبة العراق الى حد كبير .)
ولعل ما يؤيد هذه الاقوال وهذا التصنيف ما يأتينا من هذه الاقطار من انتحاريين وقتلة والتي افرادها بمنتهى البداوة والجهل والتخلف اذ تسوغ لنفسها قتل الابرياء بذرائع مختلفة وتحت عباءات وغطاءات متعددة ما انزل الله بها من سلطان تحاكي الهجمات التي اغارت بها الوهابية في بداية نشاتها في العراق في ايام الدولة العثمانية وخاصة في النجف وكربلاء حتى انهم سلبوا محتويات المراقد المقدسة في هاتين المدينتين وابيحت تلك المدن للاجلاف القساة الغلاظ الذين نزعت الانسانية من قلوبهم وضمائرهم فصيرتهم وحوشا كاسرة .
مما لاشك ان هذه البداوة المتجددة هي من مخلفات الانظمة الفاسدة والمتسلطة على رقاب الشعوب والتي تساهم مساهمة كبيرة في نشر الجهل والتخلف الحضاري والامية بين افراد شعبها خوفا من اصابتها بجرثومة الحضارة والرقي التي تنتشر في مختلف البلدان سوى البلدان العربية التي تعمدت طمس الحقائق في دهاليزها المظلمة .
واخيرا اصبح لزاما على كل واع ومثقف من ابناء هذه البلاد في نشر مكارم الاخلاق الفاضلة والتي اساسها الشريعة السمحاء للاسلام الخالد بخطه الصحيح والاعراف التي اقرها الاسلام والعقل الراجح .